مقدمة
بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق، ظن كثيرون أن زمنها انتهى، وأن حضور العرب في الغرب لن يطول. لكن شاباً واحداً من نسل بني أمية، اسمه عبد الرحمن بن معاوية، غيّر مجرى التاريخ.
هرب من الملاحقة، وقطع الصحراء والبحار، ليؤسس في أقصى الغرب دولةً جديدة أنقذت الإسلام في الأندلس، وحافظت على تراثٍ استمر قروناً.
رحلة الهروب الطويلة
كان عمر عبد الرحمن الداخل نحو عشرين عاماً حين سقطت دمشق بيد العباسيين عام 132هـ. قُتل معظم أفراد أسرته، فهرب عبر فلسطين ومصر والمغرب، متخفياً بين القبائل.
قاسى الجوع والخوف، حتى وصل إلى المغرب الأقصى، حيث وجد بعض القبائل الأمازيغية التي لا تزال تكنّ الود للأمويين. من هناك، بدأ يفكر في العبور إلى الأندلس.
الأندلس قبل قدومه
كانت الأندلس في فوضى بعد سنوات من الفتح. تنازع العرب والبربر، وظهرت صراعات قبلية بين اليمنية والقيسية.
لم يكن هناك حاكم قوي يوحّد الناس. هذه الفوضى كانت تهدد بزوال الوجود الإسلامي من شبه الجزيرة الإيبيرية.
وصول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس
في سنة 138هـ / 755م، عبر عبد الرحمن الداخل البحر متخفياً، ونزل في مدينة المنكب (قرب مالقة اليوم).
بدأ يجمع أنصاره من العرب والبربر، حتى شكّل جيشاً صغيراً، ثم توجّه نحو قرطبة، أهم مدن الأندلس آنذاك.
واجه واليها يوسف الفهري في معركة المصارة قرب المدينة، وانتصر عليه، ودخل قرطبة فاتحاً.
من هناك أعلن قيام إمارة قرطبة الأموية، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الأندلس.
بناء الدولة الجديدة
لم يكن الداخل مجرد مقاتل؛ كان قائداً حكيماً.
أعاد تنظيم الجيش والإدارة، وفرض الأمن بعد سنوات من الاضطراب.
اهتم بالزراعة وبناء الجسور والمساجد، وأدخل النظام المالي الأموي.
في عهده بدأت الأندلس تستعيد استقرارها، وأصبحت مركز إشعاع حضاري للعالم الإسلامي في الغرب.
ثورات الداخل وصموده
واجه الداخل أكثر من 25 ثورة خلال فترة حكمه، قادها خصوم من العرب والبربر، لكنه قمعها كلها دون قسوة مفرطة.
كان يقول: “أنا ليث في المعركة، ولكن رحيم في الحكم.”
حافظ على وحدة البلاد طوال حكمه الذي دام 34 عاماً، وهو أطول من كثير من خلفاء بني أمية في الشرق.
إرث عبد الرحمن الداخل
حين توفي في قرطبة عام 172هـ / 788م، ترك وراءه دولة قوية، مستقرة، ومهيأة للنهضة.
وصفه المؤرخون بأنه “صقر قريش”، وهو اللقب الذي منحه له الخليفة العباسي المنصور نفسه، إعجاباً بذكائه وصبره.
استمرت الدولة الأموية في الأندلس بعده أكثر من قرنين، حتى أصبحت خلافة قرطبة واحدة من أعظم دول الإسلام في أوروبا.
الدروس والعِبر
- الشجاعة وحدها لا تصنع التاريخ، بل الرؤية الطويلة والقدرة على الصبر.
- الوحدة والعدل أهم من القوة العسكرية.
- ما فعله الداخل مثال على أن الحضارة تُبنى بالإرادة، لا بالمكان أو العدد.








